bac.Tunisien Matiere Arabe
  العجيب في رسالة الغفران7
 
هكذا إذن تتمازج الشّخوص في الرّحلة فيشترك الإنسان والحيوان والجان في إنشاء الحوار والحكي. كما يمكن أن نقف على سمة أخرى من سمات العجيب في شخوص الغفران إذا أدركنا أنّها جميعا عدا ابن القارح قد نقلت من عالم الموت إلى عالم الحياة،" أحياها " السّارد لتؤلّف خيوط سرده وفي هذه العمليّة – كما أشرنا سابقا – تأكيدا على سيطرة قوّة خارقة وهي مشيئة الله. ولهذا تكون الشّخوص مرتبطة في حضورها وحركتها وصفاتها بما هو فوق الطبيعيّ. بعد أن رصدنا مظاهر العجيب في الرّحلة سنحاول الآن أن نكشف البنية التي يتأسّس عليها الخطاب العجيب، بمعنى آخر سنحاول أن نبحث في ثوابت مشتركة تحدّد بناء الخطاب العجيب في أيّ أثر يتقاطع مع رحلة ابن القارح في الغفران. لذلك يمكن أن نوزّع بنية العجيب كما تجلّت لنا فيما سبق من الدّرس إلى ثوابت ثلاثة تشكّل وحدة بينها تفاعل خصب وهي: أوّلا: المغرق في الغلوّ: وندرج في هذا الإطار كلّ الأوصاف وجملة النّعوت التي وضعها السّارد في وصف المكان وتحديد الزّمن ورسم الحيوانات. فكانت النّاقة المحلاّة بالزّبرجد والياقوت، وكان القصر المشيّد من درّ، وكان الأسد الذي يفترس هنيدة فلا تكفيه، وكانت الأباريق التي تحملها الأباريق كأن،ها في الحسن أباريق... ثانيا: المجلوب الدّخيل أو الغريب: وندرج فيه كلّ ما لا نملك سببا للطّعن في صحّته ولا علم لنا أصلا بأوليّاته، فكان المكان الذي نقابل فيه الموتى وحيث تمتزج الأنهار فيه من الخمر والعسل ودماء الفور ذات السّيلان الدّائم. وكان السّحاب المحلّى بالبرق في وسطه وأطرافه... ثالثا: الذّرائعيّ أو الوسيليّ: وندرج فيه الوسائل والأدوات ذات الفاعليّة المعجزة، فكان الهاتف وكانت القدرة التي تحوّل الرّمّانة إلى جارية والإوزّة إلى حورية حسناء والطّاووس إلى مصوص. ولكن الأهمّ من كلّ ذلك والمتحكّم في جميع ما جعل الرّسالة خطابا معجزا عجائبيّا هو تلك القدرة الخالقة التي جعلت الكلمة تتحوّل إلى فعل، والحروف إلى شجر، ومجرّد الخاطر إلى واقع. والأعجب من ذلك جميعا هذا الخيال الذي بالرّغم من أنّه أباح كلّ شيء فقد أبقى على إمكان التّواصل بين الباثّ – مهما كان – والمتقبّل – مهما كان . نقصد بذلك أنّ النّصّّ بالرّغم من تكسيره لمقاييس المعقول وتجاوزه لإمكانات المنطقيّ فقد أمكن فهمه وكان الخطاب العجيب يشير إلى خطاب لا معقول بعده، ولا منطق إلاّه وتلك هي صفة الأدب المميّزة وفضيلة الفنّ الخالدة. ولذلك فعلى المتقبّل أن يتجاوز عجائبيّة العجيب إلى معقوليّة العقل فيقرأ ما وراء النّصّّ من خيوط وقرائن ليقف على ما هو مسكوت عنه في النّصّ أو ما كان قد أشير إليه خفية وذكاء. ولن يستقيم ذلك إلاّ إذا وضعنا في اعتبارنا أنّ الفصل بين المستويات الثّلاثة آنفة الذّكر هو فصل لا يخلو من التّعسّف. ذلك أنّ الخطاب العجيب يقوم على الدّمج بينها جميعا ممّا يكسبه نسقه العجائبيّ المثير، وخياليّته الخلاّقة وواقعيّته الفنّيّة. وتلك هي مفارقة الآداب الأساسيّة: وهْمٌ هو أكثر الوقائع واقعيّة وخيال لا يحايث الواقع بل ينسجه نسجا ذاتيّا جدّا إلى حدّ أنّه يمسّ جميع خصوصيّات الإنسان فيكون على ذاتيّته مشتركا عاما. وهذه الخاصيّة – خاصيّة الخيال والعجيب – هي – حسب رأيينا – التي جعلت رسالة الغفران أثرا حيّا تعدّدت حوله القراءات والدّراسات فلم تكد تقرّ إحداها على رأي حتى نقضته أخرى. إن تعدد هذه القراءات يتلاءم مع ماذهب إليه T . Todorov من أنّ الخطاب العجيب " يحتمل العديد من التّأويلات ". ولكنّ هذا القول لا يشرّع أبدا أن يبحث كلّ قارئ عمّا يريد هو أن يجده، فيتّجه للبحث عن صلة الرّسالة بالواقع كما يريد هو أن تكون هذه الصّلة. بل إنّ الأهمّ من ذلك – في نظرنا – هو البحث عن صلة أحداث الغفران بعضها ببعض. وإن أردنا أن ننطلق من هذه الصّلة لفهم أسس الإبداع الأدبيّ العربيّ فعلينا أن ننتبه إلى أنّ جلّ عجائب الغفران " معقولة " أو على الأقل هي ليست عجيبة عند المسلم. فأغلب " العجائب " مستمدّة من القرآن مباشرة أو بصورة غير مباشرة، ونقصد بذلك أنّها قد تكون مشتقّة من القرآن اشتقاقا حيث يشير الله إلى قدرته على الخلق والإبداع بلا حدود. وكثيرا ما حاول المحدّثون والقصّاص تجسيد الممكن القرآني، فعجائب أبي العلاء مأخوذة كلّها من غيره قرآنا أو مصادر أخرى تخصّ تصوير الموت أو ما بعد الموت... وهكذا يكون نصّ الغفران حتّى من هذه النّاحيّة تركيبا بين نصوص. وبهذه الصّورة يمكن أن يتّخذ نصّ الغفران منطلقا لتساؤل يظلّ الجواب عنه رهين الاطّلاع والبحث وهو: إلى أيّ مدى يمكن أن نتحدّث عن خطاب إسلاميّ عجيب أو خطاب عجيب في المجتمع العربيّ الإسلاميّ ؟ بل يمكن أن نطرح السّؤال طرحا أكثر إحراجا: إلى أيّ مدى يمكن الحديث عن المقدّس إبداعيّا، أي إخضاعه للتّصوّرات العقليّة البشريّة ؟ فالغفران الذي ساعدنا على طرح السّؤال بهذه الصورة هو أوّلا من النّصّوص القليلة في الأدب الرّسميّ التي تحدّثت عن العالم الآخر. وهنا تكمن إحدى جوانب قيمته . وهو ثانيا يمكن أن يعدّ علامة من نظام كامل تندرج ضمنه نصوص قطاع كامل من النّصوص التي تنتمي إلى ما فوق الإدراك والواقع والممكن. لهذا السّبب قلت في ردّي على موضوع ( دانتي والغفران) ذات يوم والمنشور في الواحة إن " دانتي " لم يستطع أن يفهم " الغفران " إن كان قد اطّلع عليه، لأنّه ببساطة ليس مسلما ولا يفهم بنية العقل الإسلاميّ ومخيّلة الأدباء المسلمين إلاّ بعد اطّلاع عميق. ولهذا في نظري يسيء المستشرقون كثيرا في فهم أدبنا وثقافتنا – إن عمدا أم عفوا – بسبب عدم تمكنهم من إدراك بنية العقل المؤمن ورؤيته العالم من حوله. محمد بن الطيب الحامدي . ( تونس 1992 )
 
   
 
Ce site web a été créé gratuitement avec Ma-page.fr. Tu veux aussi ton propre site web ?
S'inscrire gratuitement