" وبعد ذلك، يمكن أن يحسّ بهذا التّردّد أحد الشّخوص، وهو نفس دور القارئ الذي يقرأ مندمجا مع الشّخص نفسه، فيكون التّردّد واضحا جليّا، بل إنّه يصبح موضوع الأثر الأدبيّ... "
وقد انحاز هذا التردّد في معظمه إلى التّفسير اللاّطبيعيّ إبقاء لصفة العجيب. لذلك غدا الفاعل الأساسيّ مجرّدا غير منظور، فإذا هو فاعل غائب على مستوى الرّحلة، وحاضر نصّيا، أي على مستوى الملفوظ النّصّيّ .
ثم إنّ الوجه الثّالث الذي يتجلّى فيه العجيب هو استحالة اللّفظ إلى حدث، من ذلك تحوّل الأبيات الشّعرية إلى مشاهد حركيّة، فإذا بالرّاوي يذكر قول " الخنساء " في رثاء صخر: إنّ صخرا لتأتمّ الهداة به كأنّه علم في رأسه نار
فيتحوّل البيت الشّعريّ إلى مشهد في الرّحلة، وإذا بصخر جبل بقمته نار : " فاطلعت فرأيته كالجبل الشّامخ والنّار تضطرم في رأسه " ( 27 ) إنّه المقروء وقد تحوّل إلى منظور. ولا شكّ في أنّ الأحداث وفضاء الرّحلة واستيحاء عنصر المفاجأة تغدو جميعا مجالا ومناخا محتضنين للرّعب والفزع والعجب والمخلوقات الغريبة . فإذا الرّحلة كشف واكتشاف وغوص في المجهول، وإذا بابن القارح يذعر من حيّة. " ويذهب مهرولا في الجنّة، ويقول في نفسه: كيف يركن إلى حيّة شرفها السّمّ ولها بالفتكة همّ " ( 28 )،
بل إنّ النّصّّ لا يقف عند العجيب ونقصد به ما يثير العجب والغرابة إذ إنّه يرقى إلى مستوى الذّعر والرّعب مما يذكرنا بقصص الجنّ والشّياطين والمخلوقات الغريبة التي تحفل بها الحكايات الشّعبية المتداولة سماعا وكتابة. ومثال ذلك هذا المشهد: " فإذا بالشّوس الجبابرة، من الملوك، تجذبهم الزّبانية إلى الجحيم والنّسوة ذوات التّيجان يصهرن بألسنة من الوقود فتأخذ في فروعهن وأجسادهن فيصحن: هل من عذر يقام " ( 29 ) وكذلك قوله: " فلا يسكت من كلامه إلاّ ورجل في أصناف العذاب يغمض عينيه حتى لا يرى ما نزل به من النّقم فيفتحهما الزّبانية بكلاليب من نار " ( 30 )".
وهكذا يكون للحدث فعل مزدوج في الشّخص ومن ورائه القارئ فهو يبعثهما إلى التّساؤل والتّردد من جهة ويثير فيهما من جهة أخرى الخوف والرّهبة. وهذا المنحى هو ما يؤكّده T .tdorov في قوله: “ Le fantastique produit un effet particulier sur le lecteur, peur, horreur ou tout simplement curiosité que les autres genres ou formes littéraires ne peuvent évoquer . “
جاء في كتاب : Introduction a la littérature fantastique . T . Todorov
قول: Louis Vax :
“ Le récit fantastique aime nous présenter , habitant du monde réel ou nous somme des homes comme nous placés soudain en présence de l’inexplicable “ ( 31 )
إذا حاولنا البحث في مدى توفّر هذه المقولة " السّرد العجائبيّ يحاول أن يضعنا نحن سكّان العالم الحقيقيّ، ونحن من نحن، فجأة أمام أمور لا تقبل التّفسير " – وتطابقها مع نصّ الرّحلة لوجدنا أنّ الشّخوص فجائيّة الظّهور وسريعة الاختفاء: " فيبنما هو كذلك، إذ مرّ شاب في يده محجن ياقوت... فيقول أنا لبيد بن ربيعة " ( 32 ) . وحضور الشّخوص المفاجئ واختفاؤها السّريع هو في الحقيقة بداية قصّة صغرى وانتهاؤها فهي كما يقول " حسين الواد " قصة تقديرية ملتصقة بالسرد ". وهكذا تكون الشّخوص شخوصا حكايات على حدّ عبارة T . Todorov ثمّ إنّنا في دراستنا لشخوص الرّحلة نقف على خاصيّة أخرى من خصائص الخطاب العجيب وهي العمليّة الفجائيّة في الظّهور والغياب وغياب المقاطع السّردية الممهّدة لهذا الحضور. وهكذا يمكن أن نقيم علاقة بين الفجائيّة في الحدث والفجائيّة في ظهور الشّخوص لنؤكّد على مبدإ نعتبره من أسّ العجيب. وهذا المبدأ هو الفجائية، فنحن لا نكاد نبدأ في متابعة أحداث شخص وهو يقصّ حكايته حتى نباغت بانتقال السّارد إلى شخص آخر انتقالا لا نجد له مبرّرا. فيثير فينا ذلك ضربا من التّشويق لا يعدو أن يكون في آخر الأمر سوى سعي وراء سراب. ثمّ إنّ العجائبيّة تبدو كذلك في حضور الشّخوص في إطار مكانيّ واحد رغم انتمائها إلى مرجعيّات زمنيّة مختلفة. ولا إمكان للتّواصل بينها إلاّ عجائبيّا أو خياليّا ( أو في إطار القدرة الإلهيّة التي كما قلنا تبطل هذه العجائبية ). وتبدأ هذه الشّخوص زمنيّا بآدم - بداية الكون – وتنتهي بابن القارح.
ويتخلّل كل ذلك شخوص أخرى من مرجعيّات مختلفة. " فأعشى باهلة " الجاهليّ يلتقي بالأخطل، ونسجل في النّصّّ حضور لبيد مع حسان بن ثابت. ولعلّ خير مثال لهذا التّواصل، المأدبة التي أقامها ابن القارح في الجنّة: " ويبدو له أيد الله مجده بالتّأييد أن يصنع مأدبة في الجنان يجمع فيها ما أمكن من شعراء الخضرمة والإسلام " ( 33 ) . وهكذا تستحيل المأدبة إطارا عجيبا يجمع فيه السّارد شخوصا من مختلف الأزمنة والأمكنة لتلتقي جميعا حول محور واحد هو ابن القارح. وهذا الجمع بين شخوص شتات يجعل المتقبّل أمام حدث تصعب منطقته إذا ما قارنّاه بالوجود الواقعيّ المقترن بالزّمن. على أنّ العجيب لا يكمن في هذا الحضور فحسب بل يزداد الأمر تعقيدا إذا ما انتبهنا إلى أنّ آدم يتكلّم لغة لبيد وإبليس يخاطب ابن القارح بلسانه. فتتحطم حواجز اللّغة والزّمن ليصبح الحوار قائما بين الشّخوص ودافعا للسّرد . بل إنّ الحيوان ينتصب في الرّحلة محاورا للإنسان ومحدّثا إيّاه: جاء في الغفران: " فيلهم الله الأسد أن يتكلم، فيقول: يا عبد الله أليس أحدكم في الجنّة تقدّم له الصّحفة ؟ .. فيأكل منها مثل عمر السّماوات والأرض " فالأسد بالرّغم من محافظته على صفته الحيوانيّة – الافتراس – إلاّ أنّه يكتسب لغة إنسانيّة فتكون المزاوجة بين الحيوانيّة والآدميّة ويكشف العجيب عن حضوره، بل إنّ الحيوان قد يتّخذ موقع السّارد للأحداث كالذّئب الذي يلتقي به ابن القارح والذي يسرد قصته فيقول: " أنا الذئب الذي كلم الأسلميّ على عهد النّبي صلى الله عليه وسلم، كنت أقيم عشر ليال أو أكثر.... " ( 35 ) .
|