قد يكون من قبيل المسلّمات أن تسعى كلّ قراءة حتما نحو تحديد الأطر التي تحفّ بأيّ أثر سواء كانت هذه الأطر مكانيّة أو زمانية. ونحن من خلال تعاملنا مع الرّحلة لا نعثر على إشارات تخوّل لنا الإقرار بتحديد زمن معيّن يتماثل مع ما نعرفه عن الزّمن عدا بعض الإشارات التي لا تنفي ما أقررنا به. من ذلك مثلا قول ابن القارح: " وكان مقامي في الموقف مدّة ستّة أشهر من شهور العاجلة " 5. ولعلّ هذا الضّرب من التّحديد لا يرفع الالتباس، بل يؤكّده لأنّه يقوم على أساس مفارقة بين زمن عاديّ هو زمننا وزمن آخر يفارقه أو يتجاوزه أو يخالفه كلّيا ونوعيّا... وهو زمن الآخرة.
و للوقوف عند دلالات غياب التّحديد الزّمنيّ نعود إلى ما أثبته V.Propp في كتابه " "Morphologie du conte " إذ قال: " لئن أعوز الحكايات العجيبة المرجع الزّمنيّ المباشر والصّحيح فما ذلك إلاّ لتدور أحداثها في عالم متحرّر من كلّ القيود العرضيّة الظّرفيّة وهو عالم الممكن المطلق ".
و نحن إذا أقررنا بأنّ التّتابع المنطقيّ للزّمن هو من مشمولات عالمنا الواقعيّ فإنّنا نقرّ بتدخّل سلطة العقل في الرّحلة، وننفي بذلك كلّ مواصفات العجيب عنها. ففي غياب هذا الزّمن دخول لقدرة أخرى خارجة عن الطّبيعيّ ومتعالية عليه، وهو القوّة المولّدة لجميع الأحداث فيما قد نسمّيه " قصّة الغفران ". ولعلّ في استطراد السّارد وعنايته بترديد إشارات متعدّدة على نحو: " فيذهب عرّفه الله الغبطة في كلّ سبيل... " تأكيدا منه على هذه القوّة الخارقة، وهي قدرة تتجاوز الزّمن وحدود تصوّراتنا الواقعيّة، يقول V.Propp في هذا السّياق تقريبا: " كما أنّ الرّؤية السّحريّة التي هي بمثابة الطّاقة المولّدة للحكاية العجيبة تحول دون أيّ إرساء زمانيّ، إذ أنّ عنصر الزّمن يمثّل ركيزة العقلاني الزّمني ".
إنّ السّارد في الرّحلة – رحلة الغفران – ينطوي على موقف أنطولوجيّ من الزّمن حيث يلغيه من حسابه، ويبحر في زمن المطلق. فأحداث الرّحلة تنطلق في عالم متحلّل من كلّ ضغط زمنيّ، إذ نجهل البداية و النّهاية كما نجهل المدّة الزّمنية التي استغرقتها. بل إنّ الرّحلة جميعا "مقدر لها أن" إذ إنّها لم تقع فعلا في الواقع. وهكذا يكون زمنها الاستقبال. تقنية عجيبة ولا شكّ. وهل يمكن أن نتحدّث عن " حاضر " يدور في " المستقبل " إلاّ على سبيل الخيال، والخرق لما هو عاديّ في إحداثيات وجودنا المعهودة.
وهكذا تبدو البوادر الأولى لظهور أغراض التّحول الذي يضعه T . TODOROV معيارا للعجيب والانتقال من الطّبيعيّ إلى ما فوق الطّبيعيّ في الأدب العجائبيّ، فتلغي لذلك مفاهيم اللّيل والنّهار والسّاعة والدّقيقة والشّهر والسّنة... ويغدو الزّمن زمنا مطلقا مفتوحا مستقبلا في الوقت ذاته، وانفتاحه يكون بإلغاء المسافات والحدود الفاصلة بين الحاضر والماضي والمستقبل. فإذا كان الماضي يحدّ حتما بأنّه ماض أي انتهى، فنهايته حدّ من حدوده، فإنّ نصّ الرّحلة قد تحرّر من حدوديّة الماضويّة بأن ارتمى في موجات المضارع، الاستقبال.
وبالرّغم من أنّ الشّعور بالزّمن في هذا العمل الأدبيّ يبدو ملغى، فإنّه يساهم لا محالة في تأطير المقاصد العامّة فيتّخذ ظواهر وأحداثا وأفعالا تبدو أجزاء وأشتاتا تتجاور في الزّمن. فإذا هو زمن عجيب يكتنفه الغموض وتحيط به السّريّة ويصاحبه الغريب وتغلب عليه المفاجأة والدّهشة.
ومتى سلّمنا بأنّ الزّمن في رحلة الغفران متعال على الزّمن الأرضيّ نطرح المشكل توّاً في شأن المكان.
إنّ المكان في منطقنا العقليّ هو موضوع للزّمان، لذلك سنحاول إبراز تطابق هذين العنصرين أو تعارضهما.
يبدو أنّ المكان في الرّحلة مكان واضح المعالم، ذلك أنّها رحلة في عالم أرضيّ في تضاريسه وأجوائه وفضاءاته، وهو مكان في مجمله طبيعيّ يتوفّر فيه الظلّ والمسافات والأبواب والسّبل.
|