إنّ الخطاب العجيب هو النّمط الإعجازيّ والمثير للعجب، فهو يتجاوز حدود الواقع إلى عالم ذي التزامات مغايرة تماما. فهو عالم له قوانينه الخاصة التي تتجاوز شروحنا العاديّة حول الصّدفة والقدر.
العجب أو العالم العجيب هو مرتبة من الخيال موغلة في التّخييل إلى درجة الخروج عن مقاييس العقل: فإذا كان مقياس الخيال هو مدى القرب أو البعد عن مقاييس الواقع، فإنّ العجب يكمن في مدى بعد الكلام عن العقل أو المعقول. ثمّ إنّ النّصّ العجيب لا يستحقّ هذا الوصف إلاّ إذا أقنعك بأنه ليس عجيبا؛ بل هو عالم أحياء على سبيل الحقيقة؛ تلك هي المفارقة الجوهريّة في كلّ ألوان الخطاب الأدبيّ، ذلك أنّ قوامه مفارقة الوهم والحقيقة، الحلم والواقع، العقل وما وراء العقل. بل إنّ الفنّ جميعا يتأسّس على هذه المفارقة. ولكنّ الأدب – وهو فنّ لا محالة – رغم أنّه وهم فهو إلى ذلك إيهام بأنّه ليس وهما.
فالخطاب العجيب يتحدّد إذن عبر المقارنة بين الحقيقيّ والخياليّ، بين المعقول والّلامعقول. فهو خطاب يصوّر علما عجيبا لا يرتبط بالحقيقة إلاّ في مستوى اللّفظ، وهو عالم ليس له وجود خارج اللّغة. والخطاب العجيب – إلى ذلك – لا يستمرّ إلاّ زمن الحيرة؛ وهي حيرة مشتركة بين القارئ والشّخوص، وأنّه خطاب يتميّز بإدماج المخيف في إطار الحياة الواقعية، وإيراد أحداث غير ممكنة في الحياة. فإذا كان الفنّ يقوم على هذه المفارقة فإنّ نصّ الغفران يمكن أن ينطبق عليه ما تقدّم من تعريف للخطاب العجيب. فالنّصّ يضعنا إزاء معطيات غير مألوفة ولكنّه منذ البداية تتظافر فيه معطيات تحاول أن تروّض المتقبّل بسكونها لقبول ما سيحدث في النّصّ من خوارق وعجائب عندما تبدأ الحركة ويشتغل محرّك النّصّ الأساسيّ. ومن هذه المعطيات أيضا ما تبدو عليه الأحداث من وعي بعجائبيتها ذلك أنّها ليست على نفس الدّرجة من العجب، ثمّ إنّها تخضع في ظهورها لنسق تدرّج منطقيّ معقول؛ فنحن أثناء قراءتنا نتدرّج مع النّصّ من العجب إلى الأعجب إلى الأشدّ عجبا.
هكذا يبدو العجيب خاضعا لمنطق ومعقول، وذلك هو قصدنا بأنّ هذا العجب يوهمك بعكس ذلك تماما. كما أنّ عنصرا آخر يسلّط مفعوله على كلّ النّصّ تقريبا؛ وهو عنصر القدرة الإلهيّة. فلهذا العنصر من الأهميّة في النّصّّ ما له من أهميّة في الرّؤية الإسلاميّة عموما ذلك أنّه من أهمّ مقوّمات الثّقافة الجمعيّة والمعتقد المشترك. وهو كذلك من أهمّ العوامل التي تقوم بدور مزدوج؛ فهو من جهة يشرّع ظهور العجائب باعتبار أنّ الله قادر على كلّ شيء، وهو من جهة أخرى يبطل العجائب إبطالا كاملا لأنّ المؤمن ينطلق من أنّ قدرة الله قادرة على أن تبدع " ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر " كما ورد في الحديث الشريف، واستشهد به أبو العلاء نفسه، وما لا يمكن للعقل أن يتصوّره. ولكن بسبب ذلك يكاد عنصر القدرة الإلهيّة يبطل صفة العجب على جميع هذه الأحوال لأنّ من آمن بقدرة الله لا يفاجئه شيء مهما بلغ من العجب والغرابة، ومهما أدرك خرج عن مستوى إدراكه ومقاييس عقله، بل إنّ قوة الإيمان وضعفه إنّما يقاسان بمدى إيمان المؤمن بما لا يدركه العقل البشريّ الموصوف بالعجز والمحدوديّة أصلا. ثمّ إنّ هذا العنصر بما أنّه يتصدّر بداية النّصّ فإنّه قد أضفى عليه وجه خصوصيّة يميّزه عماّ نجده من مواصفات النّصّ العجيب عند T. Todorov خصوصا. فهو يرى أنّ النّصّ العجيب يبدأ بحدوث شيء غير مألوف ينعكس في ذهن المتقبّل في شكل شبهة تحمله على التّساؤل: أفي وهم هو أم في حقيقة ؟ وعملا بهذا المبدإ تبدو " رسالة الغفران " قابلة لهذا التّعريف إذ أنّ موقف الانزياح هو مثير لشبهة في ذهن المتقبّل ولاينفك المعرّي يحاول طيلة النّصّ رفع تلك الشّبهة. كما يرى Todorov T. أنّ صاحب الخطاب العجيب يجتهد في إقناعك بأنّ خطابه يتعلّق بعالم أحياء حقيقي ليس عجيبا، ونصّ الغفران تتوفّر فيه هذه المعطيات.
و لكن ثمّة عنصر آخر في تصوّر T.Todorov لا ينطبق على الغفران وهو ما يتعلق بنهاية النّصّ فـ T.Todorov يتصوّر أنّ الأثر العجيب يبدأ بشبهة وينتهي إلى نهاية ينبغي أن تزول فيها تلك الشّبهة. فالسّؤال الذي تتولّد عنه الشّبهة وهو: أنحن في وهم أم في حقيقة ؟ لابدّ أن يتوفّر له جواب في النّهاية ذلك أنّ الحادث الذي أثار الشّبهة هو من صنع الوهم أو بفعل الجنون... ثمّ إذا ترجّح حدث الوهم فالحدث من الغريب وإذا ترجّح حدث الحقيقة فالحدث من الرّائع. وهذه الأحوال لا تظهر إلاّ في النّهاية. ولكنّ نهاية الغفران ليس لها هذه الأهميّة، بل يمكن القول إنّ كلّ شيء قد تقرّر في"الغفران" إلاّ النهاية. فمنذ البداية تثار الشّبهة، ولكنّها منذ البداية تفسّر بقدرة الله، هذه القدرة التي تعدّ قادرة مسبّقا على إتيان كلّ شيء مهما كان عجيبا ومهما فاق مستوى العقل والإدراك. لقد جعل حلّ اللّغز منذ البداية بفعل قدرة الله عجائب " الغفران " معقولة على ما فيها من عجائب، وذلك بواسطة مقاييس إسلامية لأنّ القدرة الإلهيّة قادرة على أن تأتي بما تشاء. قد يبدو الكلام عامّا وليتّضح أكثر وتبرز هذه الفكرة الأساسيّة التي نريد إثباتها، لا بدّ من العودة بشيء من التّجزئة إلى تجلّيات الخطاب العجيب في " الغفران " انطلاقا من مكوّنات هذا النّصّ: الأطر والشّخوص والأحداث.
|